دراسات إسلامية

 

لمسلمون مستهدفون

 

 

بقلم : الشيخ الدكتور محمد بن سعد الشويعر/ الرياض

  

 

  

 

 

       منذ فترة، كانت لي زيارة، لإحدى الدول الغربيّة، وبقدر ما أحزنني تفرق المسلمين هناك، واختلاف وجهات نظرهم على أمور كثيرة، وجوهرية في الدين، وهي ظاهرة مُحزِنة، يأسف لحدوثها الإنسان، في كل زمان ومكان، مما يجعلهم يهونون في أعين الآخرين، ويدخل الأعداء لتحقيق مآرب لاتخدم الإسلام كما قال الشاعر:

من يهن يسهل الهوانُ عليه

ما لـجـــــرح بميّت إيـــلام

       لأنّ الإسلام يجمع ولا يفرّق، ويحثّ على التّضامن والمحبّة، ونكران الذّات، في سبيل طاعة الله وطاعة رسوله، وخدّمَة هذا الدين، وفق ما شرع الله، في القرآن الكريم، ووفق وَصيّة رسول في حجة الوداع؛ فجعل: التّمسك بكتاب الله، وما فيه من تكليف المخرج من الفتن، والقضاء على كل مشكلة وفرقة، كما قال سبحانه: ﴿ألمÿ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فَيهِ هُدًى لِّلمُتَّقِينَ، الَّذِيْنَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ الآيات (البقرة 1-5).

       أقول بقدر ما أحزنني ذلك التّفرق، أثلج صدري تزايد المسلمين يومًا بعد يوم، وإن الحملات المشبوهة على الإسلام، ورموزه وفي القمّة رسول الله ، جعلت الشعوب هناك تتساءل عن الإسلام، والكتب التي تعرف به بحسب لغاتهم، ولعل هذا من تحقيق قوله تعالى: ﴿فَعَسَى أن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيْرًا﴾ النساء(19). ومن الحكمة البالغة، لأنّ الله سبحانه، قد اقتضت إرادته أن يكون الإسلام هو دينه الخالد .

       وتبع ذلك كثرة من يدخل الإسلام عن قناعة وفهم، وهذا يدفع كل فرد أن يعمل من أجل الإسلام، وينسى ذاته .

       ومما زاد الحقد على الإسلام، وتعاليمه، أن المادّية طاغية في بلادهم، وتبعها عزوف عن الدين، وخواء في الكنائس حتى أن بعضها لا يدخلها في يوم الأحد، إلاّ بعض العجائز والأطفال، مما دفع بعض القساوسة إلى الإعلان في الصحف ووسائل الإعلام عن قيامهم بالصلاة عمن يريد، نظير مبلغ كذا، ويحول لحساب الكنيسة بالبنك الفلاني، فتحولت العبادة من روحانية إلى مادّية؛ لكنّ حقدهم على الإسلام، جاء من جذور الحروب الصليبيّة، وأعلام اليهود، ورب ضارة نافعة، فإنّ هذا نفع المسلمين، الذين ضاقت بهم الحيل، عن وجود أماكن يبنون فيها مساجد لهم، فصاروا يتتبّعون الإعلانات في الصحف، وغيرها عن بيع كنيسة في مكان كذا، لخلوّها من الروّاد، فيشترونها، ليحوّلوها إلى مساجد .

       وبقدر ما نجد العقول النيّرة هناك، وفي غيرها من بلاد الله الواسعة، حيث يتفهمون الإسلام، ويستأنسون بما تهدف إليه تعاليمه، وما تنطوي عليه شرائعه، من حماية للفرد في صحته وبيته، وراحة نفسه، مع الاطمئنان أمنيًا على نفسه وأسرته، إلى اهتمام بالجماعة، وحفظ لحقوقهم، ورعاية لممتلكاتهم. توجد حالات معاكسة، تدفعها جهات كبيرة، عقديًا ومصلحيًا، وذات أهداف ونوايا، بتعمّد الإساءة للإسلام، وإثارة النعرات في بيئته.. ولم يقتصر الأمر على الجهد الفرديّ؛ بل تعدّى إلى تنظيم الحملات والهجوم على الإسلام، من القمم السيَاسية والدينيّة عندهم، في محاولة لإطفاء نور الله .

       ولَما كان كل فعل، لابدّ أن يُردَّ بفعل، فإن المسلمين، يجب أن ياخذوا حذرهم، ويتأسّوا بسلفهم، فهذا عمر بن الخطاب، لماجاء لرسول الله، وفي يده صحيفة من التوراة، غضب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقال: أفي شك يا ابن الخطاب مما جئتُ به، والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلاّ اتباعي.. فرماها عمر وقال آمنتُ بالله وبرسوله وبما جاء به .

       وهذا معاوية رضي الله عنه، لما كَبُر وكان بقربه كنيسة في دمشق تُدقُّ أجراسُها وقت راحته، فضجر من ذلك، ولم يتعرض لهم بقوة السلطان، ليفهمهم منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب ﴿لَكُمْ دِينكُمْ وَلِيَ دِينٍ﴾ (الكافرون6). بل قال وهو في مجلسه، مَنْ رجُل منكم يحمل رسالتي، إلى ملك الروم، وله مبلغ كذا.. بمبلغ كبير ..

       فقال رجل: أنا.. قال لخازنه: أعطه نصف المبلغ، والإفهام له بأن النصف بعد العودة، فقال الرجل: وماهي الرسالة. قال: اذهب إليهم فإذا جئت كنيستهم الكبيرة، فأذّن فيها. قال: الأمر بسيط، سأفعل وتوكّل على الله وذهب لمهمته، فلما وصل هناك، دخل تلك الكنيسة، وتناقش معهم، وجاء وقت صلاة الظهر، فرفع صوته بالأذان، فغضبوا وقاموا إليه يريدون الفتك به.. فمنعهم كبير القساوسة، ورفعوا أمره إلى ملكهم، وكان داهية، فقال: أعطوه جائزة وأعيدوه إلى بلده .

       ولمّا غضبوا من هذا التّصرف، قال لهم: إنّ معاوية داهية من دواهي العرب، ولم يرسل هذا الرجل عبثًا، وسوف أرسل من يتقصّى الخبر، فبعث مخبرًا سرّيًا.. وطلب منه تقصّي الخبر، والعودة سريعًا.. فلما عاد جمع رجال الكنائس كلّها عنده، وفي مقدمتهم رجال الكنيسة العظمى..

       فأخبرهم بما بان له: أن معاوية قد كَبُر سنّه، وبقربه كنيسة يقلقه ويمنعه النوم صوتُ أجراسها؛ فأرسل ذلك الرجل ليرفع الأذان في أكبر كنائسكم حتى تقتلوه بحميتكم لدينكم، ليكون هذا مبرورًا له لقتل القساوسة عنده، ومن ثم إغلاق كنائسكم في بلاد الإسلام كلها، فاردت أن أخيّب ظنّه بإعادة مندوبه سالماً ومكرَّمًا.

       وهذا يبين الفرق في المعالجة، بينناوبينهم، وبخاصة في الوقت الحاضر الذي زادت فيه حملاتهم، وشبهاتهم ضد الإسلام.. حتى كان آخرها ماجاء في خطبة البابا من مس وتجريح نبيّنا .

       ومن الحلّ في هذا: ما جاء في كتاب الله عز وجل، وماحثّ عليه رسول الله ، من أهمية التمسك بما ترك رسول الله في أمته، والسعي في تمكين ذلك عند العامّة، بما يبعثه العلماء، حول المخرج من الوهن الذي سعى أعداء الإسلام، لتمكينه من النفوس، ولا سبيل لذلك إلا بالعودة إلى كتاب الله، وسنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليس قراءةً لاتجاوز اللسان؛ ولكن فهمًا بأعماق القلوب، وتطبيقًا في النفس عبادة وعلاقة بالله، وطاعة لرسوله وعملاً في المجتمعات؛ حتى يكونوا في كل وقت ومكان إخوة متحابّين، يسعى بذمتهم أدناهم ..

       وتحقيق هذه الإخوة: تبرز بفهم المصدرين جيدًا، وتطبيق ذلك عملاً، كما فعل أسلافهم، في السير لرفع راية الإسلام، الذي دخلته شعوب كثيرة بالطواعية، وليس بالإكراه والسيف، كما يجدّدون تكراره في الحملات والدعايات الحالية، من باب التّلبيس على الجهلة، وتحريك النعرات والغايات ضد الإسلام .

من الأعاجيب :

       يأتي ابن كثير من تاريخه، ببعض الأمور التي يراها مستغربة، ويسميها أعجوبة من العجائب، ومن ذلك ما ذكره في حوادث عام 763هـ، فقد قال: إنه حضر شاب أعجميّ، من بلاد تبريز وخراسان، يزعم أنه يحفظ البخاري ومسلمًا، وجامع المسانيد، والكشّاف للزمخشريّ، وغير ذلك من محاضيرها، في فنون أخرى، فلما كان يوم الأربعاء، سلخ رجب قرأ في الجامع الأموي، بالحائط الشمالي منه، عند باب الكلاّسة، من أول صحيح البخاري، إلى أثناء كتاب العلم منه .

       في حفظه وأنا أقابل عليه، من نسخة بيدي، فأدّى جيدًا، غير أنه يصحف بعضًا من الكلمات المُعْجَمة فيه وربّما لحن أيضًا في بعض الأحيانِ، واجتمع خلق كثير من العامّة، والخاصّة وجماعة من المحدّثين، فأعجب ذلك جماعة كثيرين .

       وقال آخرون منهم، إنْ سرد بقيّة الكتاب، على هذا المنوال العظيم جدًا، فاجتمعنا في اليوم الثاني، وهو مستهلّ شعبان، في المكان المذكور، وحضر قاضي القضاة الشافعي، وجماعة من الفضلاء، واجتمع العامّة، مُحْدقِيْنَ فقرأ على العادة، غير أنه لم يطل، كأول يوم، وسقط عليه بعض الأحاديث، وصحّف ولحن في بعض الألفاظ، ثم جاء القاضيان: الحنفي والمالكي، فقرأ بحضرتهما أيضًا بعض الشيء، هذا والعامّة يحتفون به، متعجبين عن أمره، ومنهم من يتقرّب بتقبيل يديه .

       وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة، وقال: أنا ما خرجت من بلادي، إلاّ إلى التصدر إليك، وأن تجيز لي، وذكرك عندنا في البلاد مشهور، ثم رجع إلى مصر ليلة الجمعة، وقد كارمه القضاة، والأعيان بشيء من الدراهم، يقارب الألف.

       والعجيبة الثانية: إنه حضر في أحد البساتين، وحضر معه جمع من العلماء والمحدّثين البلغاء، وأحضروا نيفًا وأربعين مجلدًا، من كتاب المنتهي، في اللغة للتميمي البرمكيّ، وقف الناصريّة، وحضر العلاّمة: بدر الدين محمد، واجتمعنا كلنا عليه، وأخذ كلّ منا مجلّدًا، من تلك المجلدات، ثم أخذنا نسأله عن بيت الشعر المستشهد عليها بها.

       فينشر كلامنا، ويتكلّم عليه، بكلام مبين مفيد، فجزم الحاضرون والسامعون، أنه يحفظ جميع الشواهد اللغوية، ولايشذ عنه منها، إلا القليل الشاذّ، وهذا من أعجب العجائب، وأبلغ الإعراب.

       البداية والنهاية لابن كثير (ج14، ص 294-296).

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الثاني 1428هـ = مايو  2007م ، العـدد : 4  ، السنـة : 31.